فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية.
في تأويل هذه الآية ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن العدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره {وإيتاء ذي القربى} صلة الرحم، {وينهى عن الفحشاء} يعني الزنى، {والمنكر} القبائح. {والبغي} الكبر والظلم حكاه ابن جرير الطبري.
الثاني: أن العدل: القضاء بالحق، والإحسان: التفضل بالإنعام، وإيتاء ذي القربى: ما يستحقونه من النفقات، وينهى عن الفحشاء ما يستسر بفعله من القبائح، والمنكر: ما يتظاهر به منها فينكر، والبغي: منا يتطاول به من ظلم وغيره، وهذا معنى ما ذكره ابن عيسى.
الثالث: أن العدل ها هنا استواء السريرة والعلانية في العمل لله، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته، قاله سفيان بن عيينة. فأمر بثلاث ونهى عن ثلاث.
{يعظكم لعلكم تذكرون} يحتمل وجهين: أحدهما: تتذكرون ما أمركم به وما نهاكم عنه.
الثاني: تتذكرون ما أعده من ثواب طاعته وعقاب معصيته.
قوله عز وجل: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}.
يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه النذور.
الثاني: ما عاهد الله عليه من عهد في طاعة الله.
الثالث: أنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه.
{ولا تنقضوا الأيمان بَعْدَ توكيدها} يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تنقضوها بالامتناع بعد توكيدها بالالتزام.
الثاني: لا تنقضوها بالعذر بعد توكيدها بالوفاء.
الثالث: لا تنقضوها بالحنث بعد توكيدها بالِبّر.
وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها نزلت في الحلف الذي كان في الجاهلية بين أهل الشرك، فجاء الإسلام بالوفاء به.
الثالث: أنها نزلت في كل عقد يمين عقده الإنسان على نفسه مختارًا يجب عليه الوفاء به ما لم تدع ضرورة إلى حله.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فليأت الذي هو خير» محمول على الضرورة دون المباح، وأهل الحجاز يقولون، وكّدت هذه اليمين توكيدًا، وأهل نجد يقولون أكدتها تأكيدًا.
قوله عز وجل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا} وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نقض عهده، وفيه قولان:
أحدها: أنه عنى الحبْل، فعبر عنه بالغزل، قاله مجاهد.
الثاني: أنه عنى الغزل حقيقة.
{من بعد قوة} فيه قولان:
أحدهما: من بعد إبرام. قاله قتادة.
الثاني: أن القوة ما غزل على طاق ولم يثن.
{أنكاثًا} يعني أنقاضًا، واحده نكث، وكل شيء نقض بعد الفتل أنكاثٌ.
وقيل أن التي نقضت غزلها من بعد قوة امرأة بمكة حمقاء، قال الفراء: إنها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة، سميت جعدة لحمقها، كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعدما تبرمه، فلما كان هذا الفعل لو فعلتموه سفهًا تنكرونه كذلك نقض العهد الذي لا تنكرونه.
{تتخذون أيمانكُمْ دَخَلًا بينكُمْ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: أن الدخل الغرور.
الثاني: أن الدخل الخديعة.
الثالث: أنه الغل والغش.
الرابع: أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من لزوم الوفاء.
الخامس: أنه الغدر والخيانة، قاله قتادة.
السادس: أنه الحنث في الأيمان المؤكدة.
{أن تكون أمة هي أربى من أمة} أن أكثر عددًا وأزيد مددًا، فتطلب بالكثرة أن تغدر بالأقل بأن تستبدل بعهد الأقل عهد الأكثر، وأربى: أفعل الربا، قال الشاعر:
أسمر خطيًّا كأنّ كعوبه نوى ** القسب أو أربى ذراعًا على عشر

. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أجمل آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية، وروي عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبي طالب، فتعجب وقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا فوالله، إن الله أرسله ليأمر بمكارم الأخلاق، وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه.
قال القاضي أبو محمد: و{العدل} هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق، {والإحسان} هو فعل كل مندوب إليه، فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على حد الاجزاء داخل في الإحسان، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري: {العدل} لا إله ألا الله، و{الإحسان} أداء الفرائض.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القسم الأخير نظر، لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل عليه السلام، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه، حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حديث سؤال جبريل عليه السلام، بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد أداء الفرائض مكملة {وإيتاء ذي القربى} لفظ يقتضي صلة الرحم ويعم جميع إسداء الخير إلى القرابة، وتركه مبهمًا أبلغ، لأن كل من وصل في ذلك إلى غاية وإن علت يرى أنه مقصر، وهذا المعنى المأمور به في جانب {ذي القربى} داخل تحت {العدل} و{الإحسان}، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتمامًا به وخصًا عليه، و{الفحشاء} الزنى، قاله ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وغيره من المعاصي التي شنعتها ظاهرة وفاعلها أبدًا متستر بها، وكأنهم خصوها بمعاني الفروج، والمنكر أعم منه، لأنه يعم جميع المعاصي والرذائل والإذايات على اختلاف أنواعها، و{البغي} هو إنشاء ظلم الإنسان والسعاية فيه، وهو داخل تحت {المنكر} لكنه تعالى خصه بالذكر اهتمامًا به لشدة ضرره بالناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي» وقال صلى الله عليه وسلم: «الباغي مصروع، وقد وعد الله تعالى من بُغِي عليه بالنصر» وفي بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الله الباغي منهما دكًا.
قال القاضي أبو محمد: وتغيير المنكر فرض على الولاة، إلا أن المغير لا يعنّ لمستور، ولا يعمل ظنًا، ولا يتجسس، ولا يغير إلا ما بدت صفحته، ويكون أمره ونهيه بمعروف، وهذا كله لغير الولاة ألزم وفرض على المسلمين عامة، ما لم يخف المغير إذاية أو ذلًا، ولا يغير المؤمن بيده ما وجد سلطانًا، فإن عدمه غير بيده، إلا أنه لا يصل إلى نصب القتال والمدارأة وإعمال السلاح إلا مع الرياسة والإمام المتبع، وينبغي للناس أن يغير المنكر منهم كل أحد تقي وغير تقي، ولو لم يغير إلا تقي لم يتغير منكر في الأغلب، وقد ذم الله تعالى قومًا بأنهم لم يتناهوا عن منكر فعلوه، فقد وصفهم بفعله وذمهم لما لم يتناهوا عنه وكل منكر فيه مدخل للنظر فلا مدخل لغير حملة العلم فيه، فهذه نبذة من القول في تغيير المنكر تضمنت ثمانية شروط، وروي أن جماعة رفعت على عاملها إلى أبي جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها بأنهم لم يبينوا عليه كبيرة ظلم، ولا جوروه له في شيء، فقام فتى من القوم، فقال يا أمير المؤمنين: إن الله أمر {بالعدل والإحسان}، وأنه عدل ولم يحسن، قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل، وقوله: {وأوفوا بعهد الله}، الآية مضمن قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية، افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير قوله: {وأوفوا}، وعهد الله لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وبالجملة كل ما كان طاعة بين العاهد وبين ربه، كان فيه نفع للغير أو لم يكن، وقوله: {ولا تنقضوا الأيمان} خص في هذه الألفاظ العهود التي تقترن بها أيمان تهممًا بها وتنبيهًا عليها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا في كل ما كان الثبوت فيه على اليمين طاعة لله وما كان الانصراف عنه أصوب في الحق فهو الذي قاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ويقال تأكيد وتوكيد ووكد وأكد وهما لغتان، وقال الزجاج: الهمزة مبدلة من الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير بين، لأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك، و{كفيلًا} معناه متكفلًا بوفائكم، وباقي الآية وعيد في ضمن خبر بعلم الله تعالى بأفعال عباده، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، رواه أبو ليلى عن مزيدة، وقال قتادة ومجاهد وابن زيد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فزادها الإسلام شدة.
قال القاضي أبو محمد: كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة» وهذا حديث معنى، وإن كان السبب بعض هذه الأشياء، فألفاظ الآية عامة على جهة مخاطبة العالمين أجمعين.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.
شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكمًا، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل فحلته بعد إبرامه، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت سعد كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة، وقيل كانت امرأة موسوسة تسمى خطية تغزل عند الحجر وتفعل ذلك، وقال مجاهد وقتادة، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة و{أنكاثًا} نصب على الحال، والنكث النقض، والقوة في اللغة واحدة قوى الغزل والحبل، وغير ذلك مما يظفر، ومنه قول الأغلب الراجز:
حبل عجوز فتلت سبع قوى

ويظهر لي أن المراد ب القوة في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ولو قدرناها واحدة القوى لم يكن معها ما ينقض {أنكاثًا}، والعرب تقول أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له، قال مجاهد: المعنى من بعد إمرار قوة، والدخل الدغل بعينه، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن فيتمكن الحالف من ضره بما يريده، وقوله: {أن تكون أمة هي أربى من أمة}، قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة، قوية فداخلتها، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى، فقال الله تعالى ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة والربا الزيادة، ويحتمل أن يكون القول معناه لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم أي أزيد خيرًا، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود، و{يبلوكم} معناه يختبركم، والضمير في {به} يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به، ويحتمل أن يعود على الربا، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة، وقوله: {هي أربى} موضع {أربى} عند البصريين رفع وعند الكوفيين نصب، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين لأنه لا يكون مع النكرة، و{أمة} نكرة، وحجة الكوفيين أن {أمة} وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص، وفي هذا نظر. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} فيه ست مسائل:
الأولى قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} رُوي عن عثمان بن مَظْعُون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتُها على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فتعجّب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق.
وفي حديثٍ إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية، قال: اتبعوا ابن أخي، فوالله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الأخلاق.
وقال عكرمة: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخرها، فقال: يا ابن أخي أعد! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لَطّلاوة، وإن أصله لمُورِق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر! وذكر الغزنوي أن عثمان بن مظعون هو القارىء.
قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلاّ حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعد! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة، وذكر تمام الخبر.
وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب.
وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كَتْبُ الرجل إلى إخوانه.
الثانية: اختلف العلماء في تأويل العدل والإحسان؛ فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض.
وقيل: العدل الفرض، والإحسان النافلة.
وقال سفيان بن عُيينة: العدل هاهنا استواء السريرة، والإحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية.
عليّ بن أبي طالب: العدل الإنصاف، والإحسان التفضل.
قال ابن عطية: العدل هو كل مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق.
والإحسان هو فعل كل مندوب إليه؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حَدّ الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميلُ الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان.
وأما قول ابن عباس ففيه نظر؛ لأن أداء الفرائض هي الإسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الإحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله: «أنْ تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة.
وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثارُ حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديمُ رضاه على هواه، والاجتنابُ للزواجر والامتثال للأوامر.
وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها؛ قال الله تعالى: {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} [النازعات: 40]، وعُزوبُ الأطماع عن الاتباع، ولزومُ القناعة في كل حالٍ ومعنًى.
وأما العدل بينه وبين الخلق فبذلُ النصيحة، وتركُ الخيانة فيما قَلّ وكَثُر، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سِرٍّ ولا في عَلَن، والصبرُ على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقلّ ذلك الإنصافُ وترك الأذى.
قلت: هذا التفصيل في العدل حَسَنٌ وعدل، وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يُحْسن إحسانًا.
ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه؛ كقولك: أحسنت كذا، أي حسّنته وكمّلته، وهو منقول بالهمزة من حَسُن الشيء.
وثانيهما متعدٍّ بحرف جر؛ كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به.
قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معًا؛ فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسِّنّوْر في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهّده بإحسانك؛ وهو تعالى غنيّ عن إحسانهم، ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن.